الحكيم والعصا

الحكيم والعصا

كان أحد الحكماء لا يفارق عصاه، مع أنه كان جَلْداً قوياً لا يحتاج إلى عصا، وأصبح معروفاً بعصاه لا يفارقها ولا تفارقه، واعتاد الناس على ذلك حتى أصبحوا لا يستطيعون أن يتخيلوه سائراً بدون (عصا)، ودخل ذات يوم مجلس قومه كعادته متوكئاً على عصاه، فبادره أحد الجالسين على خلاف ما اعتاد عليه قائلاً: إني لأتساءل كما يتساءل غيري أيها الحكيم: ما لك تدمن إمساك هذه العصا ولست بالرجل المسن ولا بالمريض؟ فنظر إليه الحكيم نظرة ذات معنى وقال:

إنما أحمل هذه العصا لأتذكر أنني مسافر.

وجم القوم يتأملون هذه الإجابة السريعة، المختصرة، المحملة بمعان كثيرة يدركها من يعرف معنى السفر.

إنه السفر من هذه الحياة التي هي رحيل دائم لا ينقطع، لقد استخدم هذا الحكيم أسلوب التذكير المستمر لنفسه، التذكير المادي الملموس، عصا يحملها في يده دون حاجة إليها، فهو قوي الجسم صحيح سليم، وإنما يحملها لحاجة أخرى هي حاجة الذكرى والموعظة والعبرة، لكأن تلك العصا لسان ناطق فصيح يقول له: انتبه أيها الحكيم فأنت في رحلة قصيرة سرعان ما تنتهي.

إذا عرضت لك حاجة من حاجات النفس ولم تتحقق فلا تجزع، فإنك مسافر، وإذا دعتك نفسك إلى سب وشتم وإساءة فلا تفعل فإنك مسافر، وإذا دعاك طمعك وبغيك إلى ظلم أو اعتداء فلا تفعل فإنك مسافر، رجل حكيم صنع لنفسه من عصاه علامة تذكير ترافقه في كل مقام مهما شطح به ذهنه، وزاغت به عن الطريق نفسه، وانحرف به عن الجادة هواه، فإن عصاه تقول له: انتبه فإنك مسافر، والمسافر لن يسلم من العناء، ولن يستغني عن الصبر على التعب ومشقة الطريق.

ذكرني هذا برجل كبير السن التقيت به في مسجد من مساجد الطائف، فلفت نظري حزام يلفه على وسطه قد تدلى طرفاه من أمامه، وعمامة ملفوفة على رأسه قد تدلت ذؤابتها من ورائه، وقد انبعثت منه رائحة دهن مسك خفيفة لطيفة، مددت إليه يدي مصافحاً فالتفت إلي بوجه رسمت عليه الشيخوخة خطوطاً بارزة ولكنه كان وجهاً مشرقاً باسماً، وبعد تبادل التحية والسلام قلت له ملاطفا: كأني بك لا تحل هذا الحزام عن وسطك ولا ترفع هذه العمامة عن رأسك حتى في النوم، فابتسم قائلاً: أما العمامة فلا يمكن النوم بها، وأما الحزام فهو رفيق يصعب علي أن أتركه إنه رفيق سفر طويل في مقاييس البشر لكنه قصير قصير، قلت له: إنها عادة تعودت عليها، وليس من السهل على الإنسان أن يترك عادته، قال: هل تعلم يا بني أن هذا الحزام يذكرني دائماً بالرحيل، كلما انصرفت نفسي إلى مظهر من مظاهر الدنيا لمست حزامي بيدي، ونظرت إلى طرفيه المسدلين وقلت لنفسي: انتبه يا فلان فأنت في طريق السفر والمسافر من بلد إلى بلد لا يبني له بيتاً في الطريق ليستريح فيه إلا إذا كان مجنوناً، يكفيه أن يستريح في أي مكان فيه ظل لأنه سينطلق بعد ذلك إلى البلد الذي يقصده.

نعم ذكرني كلام ذلك الحكيم صاحب العصا بكلام هذا الحكيم صاحب العمامة والحزام، وقد صدقا فيما قالا، أما القول الأكمل والأجمل فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه:

ما أنا في هذه الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم تركها ورحل.

مشكور على القصة الجميلة

تســلم عبود